نشوء البيان

دراسات قرآنية لغوية تاريخية آثارية

الرافض للحقيقة يقول عنها أنها سحر


كثيراً ما يذكر القرآن من خلال آياته وقصصه، أن الله كل ما جاء بآية (أي بحقيقة وبيّنة ودليل وبرهان)، فإن كثيراً من الناس يقولون عن هذه الآية أنها سحر. وطبعاً يقصدون بالسحر (الخداع البصري).

فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) النمل

فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى (36) القصص

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) سبأ

وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) الصافات

وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ (30) الزخرف

وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) القمر

فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) الصف

 

فمثلاً عندما تحولت العصا (الخشب) إلى ثعبان (حقيقي كغيره من الثعابين الحقيقية) قال فرعون وقومه أن هذا سحر. وقصدوا أن موسى خدعهم بصرياً وأن ثعبانه لا يختلف عن ثعابين السحرة (مجرد صور وهمية).

طبعاً الذين قالوا عن ثعبان موسى أنه سحر، كانوا ظالمين. لأن ثعبان موسى كان آية أي حقيقة (مثل أي ثعبان حقيقي إذا لدغ الإنسان فسيميته).

ولتوضيح الفرق بين الحقيقة والسحر بعجالة، نفترض أن أمامك كوب عصير على طاولتك وفي نفس الوقت ترى كوب عصير على شاشة التلفاز.

فلو قلت أن عصير الشاشة سحر (خداع بصري)، فأنت لست كاذباً ولا ظالماً. فعينك مخدوعة بصرياً ولو حاولت أن تمسك عصير التلفاز أو تشربه لما استطعت لأنه غير موجود[1].

ولكن لو قلت أن العصير الذي على طاولتك سحر (خداع بصري)، فأنت كاذب وظالم. لأن عصير الطاولة هو حقيقي. فأنت ترى كوب العصير وفيه العصير، وتجده كما تراه. فإذا مسكته، فهو كما رأته عينك. وإذا شربته، فهو كما رأته عينك. فما تراه عينك، هو ما تحسه بحواسك الخمس. فالعصير موجود يمكنك أن تتناوله وتشربه. ولذلك لو قلت أن عصير الطاولة سحر، فأنت كاذب ظالم.

[وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)  الأنعام]. فالذي يرى القرطاس ويلمسه كما يراه فلا يجوز أن يقول أنه خداع بصري (سحر).

[وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) الحجر]. كذلك الذي يظل يعرج في باب من السماء، لا معنى لقوله أنه مسحور. فتخيل أنك صعدت مع أحدهم في مصعد عمارة عالية عشرات الطوابق ثم قال لك ذلك الشخص أن هذا الصعود ليس إلا وهم وخيال وخداع بصري وأنه ليس حقيقياً. وهذا يذكرنا بخطأ فرعون الذي اقتحم البحر (فوجده كما رآه، قد انشق بالفعل) ومع ذلك يصر فرعون أن كل آيات موسى سحر. فهذا هو الظلم بعينه.

وربما لم نعد هذه الأيام نسمع أهل عصرنا يقولون عن الحقائق أنها سحر (خداع بصري). ولكني وجدت أن ما تحدث عنه القرآن حول هذا الأمر منذ اكثر من 1400 سنة لا يزال يردده بعض الناس.

فمثلاً وجدت أشهر ملحد دارويني وهو ريتشارد دوكنز، يقول في كتابه [علم الأحياء هو دراسة الأشياء المعقدة التي تعطي مظهر من أنها قد صممت لغرض][2]. فهو يقول نعم نرى التصميم، ولكنه ليس حقيقة (ليس آية) بل هو خداع بصري (سحر).

ويقول أيضاً ["الانتقاء الطبيعي هو صانع الساعات الأعمى، الأعمى لأنه لا يرى المستقبل، لا يخطط لعواقبه، وليس له أي غرض. ومع ذلك، فإن النتائج الحية للاختيار الطبيعي تثير إعجابنا بأوهام التصميم والتخطيط][3]. فالتصميم والتخطيط الذي يراه، لا يعتبره حقيقة (آية) بل مجرد وهم (خداع بصري)، أي سحر.

وكنت قد ناقشت بعض الملاحدة قديماً في برنامج البالتوك فسألتهم في آخر النقاش سؤالاً بسيطاً: كيف تنكرون كل هذا التصميم في الموجودات الحية والميتة من حولنا في كل هذا الكون؟ فكان الجواب ببساطة : لا يوجد تصميم!

استغربت في البداية من هذا الجواب وقلت لنفسي لماذا يرفضون التصميم للموجودات وهو واضح وضوح الشمس؟ وبعد زمن فهمت سبب رفضهم للتصميم. فهم ملاحدة يرفضون وجود الله، ولو وافقوا على التصميم للزمهم الموافقة على وجود المصمم (الله). وبعد ذلك فهمت كيف يعللون رفضهم للتصميم بعد أن قرأت كلام ريتشارد دوكنز... فهم وإياه ببساطة يقولون: نعم نرى التصميم في الموجودات الحية ولكن ما نراه ليس حقيقة وإنما هو خداع بصري أو كما كان القدماء يقولون ...سحر.

فقلت سبحان الله، فلا يزال بعض الناس في عصرنا يقولون لآيات الله أنها سحر (خداع بصري)، كما كان يقول القدماء. وهذا هو الظلم. فكأن هذا الظالم يقول للشخص الذي يراه والواقف أمامه أنت في الحقيقة غير موجود لأنك مجرد خداع بصري لا تختلف عن حال مذيع التلفزيون الذي أراه على الشاشة. فساوى ظلماً بين الإنسان الحقيقي الواقف أمامه وبين إنسان التلفاز.

وكذلك من يحكم على الآيات (الحقائق) على أنها خداع بصري (سحر)، فإن الله سيعتبره ظالماً.

ويوم القيامة ماذا سيفعل ذلك الشخص الذي اعتاد أن يجعل الحقيقة سحراً ووهماً وخداعاً بصرياً عندما سيجد نفسه في هذا الموقف الذي تتحدث عنه الآية:

هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) الطور

 

الله لن يعذبنا في الدنيا إذا قلنا عن الحقيقة أنها سحر (لأننا لا زلنا في مهلة)، ولكن ماذا سنفعل في الآخرة؟

فحالنا الآن مثل شخص واقف أمام (أسد حقيقي داخل قفص) ويقول عن الأسد أنه سحر (خداع بصري)، فلن يضره قوله (لأن القفص يحميه من الأسد)، لكن ماذا سيجديه قوله (أن الأسد خداع بصري وسحر) إذا وجد نفسه داخل القفص مع الأسد؟


[1] ولذلك لم يكذب موسى عندما قال عن ثعابين السحرة [{فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ (81) يونس]. فموسى قال لهم ثعابينكم غير حقيقية ومجرد خدع بصرية.

[2] “Biology is the study of complicated things that give the appearance of having been designed for a purpose.” {Richard Dawkins, The Blind Watchmaker, 1996, p. 1}

[3]  “Natural selection is the blind watchmaker, blind because it does not see ahead, does not plan consequences, has no purpose in view. Yet the living results of natural selection overwhelmingly impress us with the illusion of design and planning.” {Richard Dawkins, The Blind Watchmaker, 1996, p. 21.}


حامد العولقي