نشوء البيان

دراسات قرآنية لغوية تاريخية آثارية

يوم يُكشف عن ساق

الموضوع باختصار ....

يوم القيامة سيكشف الله عن ساق الكافر كل ما يمنعها من أداء السجود (سواء قيود حول الساق، أو مرض، أو أي عائق ومانع)، فيجعل الله ساق الكافر صحيحة سليمة طليقة حرة قوية. وكذلك ستكون عند الكافر الرغبة القوية والتشوق الشديد لأن يسجد لله حينئذ. ثم سيُطلبُ من الكافر (يوم القيامة) أن يسجد لله، وسيفرح الكافر بذلك، لأنه سيظن أن الله سيغفر له كفره وعدم سجوده في الدنيا، بإعطائه الآن (في الآخرة) فرصة ثانية لكي يسجد لله. ولذلك سيستجيب الكافر بكل حماس لأمر السجود، ويهمّ بالسجود ويهمّ بثني رجليه وتحريك ساقيه ولكن ... لن يحدث السجود (مهما حاول أن يسجد). وسيُصدم الكافر، ولن يفهم ما حصل. فساقه سليمة جدا وحرّة تماما ورغبته في السجود قوية جدا ولكن ... لا سجود. والسبب أن الله سلب الكافر نعمة وفرصة عظيمة لا تعوض كانت معطاة له في الدنيا (وهي أن الله كان يسمح ويشاء أن يسجد له الناس)، أما الآن (في الآخرة)، فالله لا يشاء ولا يسمح أن يسجد له الكافر (فاتت فرصة السجود لله).

 

يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) القلم

المعنى البسيط للآيات كالتالي. سيؤمر الكافر يوم القيامة بالسجود لله. وطبعاً سيفرح الكافر بهذا الأمر، لأنه في تلك اللحظة (يوم القيامة بعد أن تبين له أنه كان مخطئاً في كفره)، سيطمع ويرجو أنه لو سجد لله حينها، فسوف يغفر الله له كفره وذنبه. ولذلك سيهرع الكافر (بكل حماس ورغبة واندفاع) للسجود لله يوم القيامة. ولكن سيتفاجأ الكافر أنه لا يستطيع فعل ذلك (رغم أن الله أعطاه الإرادة الكاملة في تلك اللحظة لفعل ما يرغب وما يريد). فالكافر سيستغرب من أنه لم يتمكن من السجود لله، رغم أنه يريد بشدة أن يسجد، وهو يجد جميع جسده سليماً صحيحاً لا خلل فيه، ولكنه لا يفهم لماذا لم يستطع أن يسجد.
والمعنى البسيط لعبارة (يُكشف عن ساق)، هو أن الله سوف يكشف عن ساق الكافر كل ما يمنعها من أن تتحرك بكل حرية. فسوف يجعل الله ساق الكافر طليقة حرة صحيحة لا مانع يمنعها (من داخلها كمرض، أو خارجها كقيود). فالله سيكشف عن ساق الكافر كل ما يمنع حركتها كما تشاء أن تتحرك. فلا سلاسل على ساق الكافر ولا أغلال ولا قيود ولا مرض بها ولا عجز ولا خلل ولا ضر ولا أي سبب مادي جسدي يمنع ساق الكافر من التحرك كما تشاء. فكل مانع (داخلي وخارجي)، سيكشفه الله عن ساق الكافر.

وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ (50) إبراهيم
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) الإنسان
وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ (13)} الفرقان
وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ (5) الرعد
وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا (33) سبأ
إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) غافر

فساق الكافر يوم القيامة قد كُشف عنها كل ما يعيقها أو يربطها. كذلك سيجعل الله في نفس هذا الكافر الرغبة القوية التامة المُلحّة الجامحة أن يأمر ساقه بالتحرك (الانثناء) للسجود.

لكن الذي حدث في تلك اللحظة يوم القيامة، أن الكافر لم يستطع السجود (رغم كل محاولاته المتكررة اليائسة لفعل ذلك). ولذلك هو مستغرب ومندهش جداً ومصدوم لا يفهم لماذا لم يستطع السجود (رغم سلامة وحرية ساقه وتمتعه بإرادته التامة).

فلماذا فعل الله ذلك بهذا الكافر يوم القيامة؟ الجواب بسيط. فكأن الله يقول للكافر لقد فات الأوان. كما فات فرعون وقتُ التوبة [آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ (91) يونس]. ساقك أيها العاصي السابق (الذي تريد أن تطيع الآن)، سليمة وحرة وإرادة رغبتك للسجود موجودة، ولكن إرادتك ضمن إرادة الله. والله لا يريد أن تسجد الآن، ولذلك لم تستطع أن تسجد.

في الدنيا شاء الله وأراد أن نسجد له [وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ]، فإرادة الإنسان في الدنيا فعّالة وساقه سليمة صحيحة وكانت أهم نعمة متحققة عليه (وهي أن الله يشاء أن نسجد له في الدنيا). فالإنسان في الدنيا (سالم)، لا مانع يمنعه من السجود إلا نفسه.

لكن بعض الناس في الدنيا (وهم سالمون لا مانع يمنعهم إلا أنفسهم) لم يشاؤوا أن يسجدوا لله. بينما آخرون (المؤمنون) عندما كانوا في الدنيا (وهم أيضاً سالمون لا مانع يمنعهم)، أرادوا السجود لله، فسجدوا.
هذا كان في الدنيا. وهذان الفريقان من الناس في الدنيا كانوا يتمتعون بنعمة من الله، وهي أن الله كان يريد ويشاء أن يسجدوا.

لكن عندما جاء يوم القيامة، توقف العاصي السابق عن كفره وكبره، ورأى الحق وندم على ما كان منه.

وأراد الله الآن (يوم القيامة)، أن يوبّخه ويعذبه نفسياً ويقتله حسرة، فقال له اسجد! ففرح الكافر بهذا الأمر، وقال في نفسه نعم أنا أريد بكل قوة وإصرار أن أسجد. واختبر الكافر ساقه فوجدها سليمة معافاة صحيحة يستطيع أن يقفز بها ويثنيها ويحركها في أي اتجاه. فقال هذا جيد جداً، فأنا الآن لدي الرغبة القوية في السجود وساقي (جسمي وبدني وأعضائي) سليمة صحيحة قادرة (لا موانع داخلية). وعلى سبيل التوضيح لو افترضنا أن الأطباء فحصوا ساقه في تلك اللحظة لوجدوا أعصابها وشرايينها وعضلاتها وعظامها كلها سليمة صحيحة. كذلك نظر الكافر حول ساقه فوجد أن لا مانع خارجي يحبسها ويقيدها (لا قيود ولا سلاسل ولا كبول). فالساق مكشوف عنها كل مانع (داخلي أو خارجي). يا لفرحة الكافر! إنها الفرصة الكبرى في ظنه للنجاة. فقال الكافر إني أرجو وأطمع أن يغفر الله لي رفضي السجود له في الدنيا بأن أسجد له الآن. فأراد بكل فرحة وسرور أن يسجد. ولكن ... لم يحدث السجود. لم يفهم الكافر ماذا حدث. فالرغبة موجودة والساق سليمة، والموانع عنها مكشوفة مُزالة، فلماذا لا يستطيع أن يسجد؟ حاول الكافر مرة بعد أخرى لكنه لم يستطع أن يحقق رغبته ويسجد. فالساق طليقة حرة صحيحة، تستطيع أن تمشي وتقفز وتتحرك بأي اتجاه (قد كُشف عنها كل قيد داخلي أو خارجي)، لكنها لا تستطيع أن تسجد. يا فرحة ما تمّت.

السبب أن الله يوم القيامة لم يعد يشاء أن يسجد الكافر له. ومشيئة الكافر (وكل مخلوق) داخل مشيئة الله وإرادة الإنسان داخل إرادة الله. وإذن لن تتحقق مشيئة المخلوق إذا لم يشاء الخالق.

مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ (111) الأنعام
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ (24) الكهف
فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ (56) المدثر
فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ (30) الإنسان
لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29) التكوير

فالعاقل يغتنم الفرصة اليوم في الدنيا ما دام الله الآن يشاء أن نسجد له. أما إن تكبرنا عن السجود لله في الدنيا، فالفرصة سوف تفوت. فلن يشاء الله أن نسجد له يوم القيامة (حتى لو كنا يوم القيامة نشاء أن نسجد لله وكانت ساقنا سليمة صحيحة وكان مكشوفاً عنها كل ما يكبّلها أو يحبسها أو يمنعها).

فالساق التي سيُكشَف عنها، هي ساق الإنسان (الذي رفض في دنياه أن يسجد لله).


عندما نصلي لابد من كشف الساق

من أراد أن يسجد في الدنيا فلن يستطيع إن كانت ساقه مغطاة بالموانع (من مرض أو قيد أو غيره). بل أننا عندما نصلي ونريد أن نسجد فإننا نكشف عن الساق بطريقة تلقائية. فإن كان المصلي يلبس سروالاً أو ثوباً، فإنه بطريقة عفوية يرفعه للأعلى لكيلا يعيق انثناء الركبة وحركة الساق. فالمصلي إذا أراد السجود يجد نفسه تلقائياً يسحب لباس ساقه للأعلى قليلاً (ولو لم يفعل لوجد صعوبة في أداء السجود). فالمصلي كأنه يكشف بنفسه عن ساقه (يُبعِد ويُزيح ويُزيل ما يمنع ساقه من حرية الحركة). كذلك يوم القيامة، سيزيل الله (سيكشف) كل الموانع الخارجية والداخلية (سلاسل، قيود، ضر، مرض، شلل، ضعف، ...) التي يمكن أن تمنع ساق الكافر من أن تتحرك بحرية. كذلك سيجعل الله هذا المخلوق العاصي يتوق ويرغب ويشاء ويريد أن يسجد. لكن هناك شيء ضروري لابد منه سيحتاجه هذا الكافر ولن يتحقق بدونه أي شيء. ولكن لن ينعم الله عليه به، وهو مشيئة الله وإرادته. فالله يوم القيامة لن يشاء ولن يريد أن يسجد له الكافر (رغم أن الكافر حينها يشاء ويريد، ولا يوجد شيء داخلي أو خارجي يمنع ساقه من السجود فقد كشف الله كل مانع عن ساق الكافر). ولذلك لن يستطيع الكافر أن يسجد لله يوم القيامة، رغم أن ساق الكافر مكشوف عنها، والكافر يرغب في السجود. ولكن لن يحدث سجود.

ونلاحظ أن الآية [يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ] تشبه في كلماتها الآية عن ملكة سبأ [وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا (44) النمل]. لكن الكشف عن الساق يوم القيامة بمعنى إزالة ما يعيق ويمنع ويحبس الساق من الحركة بحرية، فالهدف من الكشف (يوم القيامة) هو إطلاق الساق. أما كشف ملكة سبأ عن ساقيها فهدفه (كما ظنّت الملكة) إبعاد ثوبها عن ملامسة الماء لكيلا يصيبه البلل.


تفاسير ذكرت أن الإنسان يكشف عن ساقه

بعضهم جعل ذلك في الدنيا يوم الوفاة أثناء الاحتضار:

 تفسير القشيري (المتوفى: 465هـ): [(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ ...)، .... وقيل: يكشف المريض عن ساقه- وقت التوفّى- ليبصر ضعفه، ويقول المؤذّن: حيّ على الصلاة- فلا يستطيع.

 

وجاء في سياق كلام أنه يحتمل في اللغة أن يكون ساق الإنسان:

 النكت في القرآن الكريم- أبو الحسن المجاشعي (ت 479 هـ): ونحو قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42]، يحتمل في اللغة أن يكون ساق الإنسان وساق الشجرة، والشَّدة من قولهم: قامت الحرب على ساق/

 

كما أن التفسير الشهير للآية [يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ] بمعنى (الشدة)، أرجع الأصل اللغوي لتعبير الآية، إلى كشف الإنسان لساقه (لغرض إطلاقها وتحرير حركتها):

 الفصول في الأصول - الجصاص الحنفي (المتوفى: 370هـ): [يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ [القلم: 42] ... وأصل هذا أنّ الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى معاناته والجدّ فيه- شمّر عن ساقه، فاستعيرت الساق في موضع الشدة/ تفسير السمرقندي (المتوفى: 373هـ): {يوم يكشف عن ساق} [القلم: 42] يعني عن شدة الأمر لأن من عني أمرا عظيما شمر عن ساقه/ تأويل مشكل القرآن -ابن قتيبة الدينوري (المتوفى: 276هـ): وقال القتبي: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ هذا من الاستعارة، فسمى الشدة ساقاً، لأن الرجل إذا وقع في الشدة، شمَّر عن ساقه، فاستعيرت في موضع الشدة/  تفسير الماتريدي (المتوفى: 333هـ): وقوله - عزَّ وجلَّ -: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ... (42). ... وقيل - أيضًا - بأنهم كانوا إذا ابتلوا بشدة وبلاء كشفوا عن أسوقهم/ المحكم والمحيط الأعظم - ابن سيده (ت: 458هـ): (يكشف عن ساق) لأن الناس يكشفون عن سوقهم، ويشمرون للهرب عند شدة الأمر.


حامد العولقي