نشوء البيان

دراسات قرآنية لغوية تاريخية آثارية

Untitled 1

هل حلق الخارجي هو أثر السجود؟

ملاحظة: لفهم هذا الموضوع أكثر، يرجى مراجعة موضوعين سابقين (لماذا ذو الثدية حبشي أسود؟) و(لماذا لرئيس الخوارج يد كثدي المرأة).

كما هو معروف، ذكرت أحاديث كثيرة أن علامة أو سمة الخارجي هي (الحلق). وهذا الحلق عبرت عنه الروايات بصيغ عديدة مثل: سيماهم التحليق، سيماهم التحالق، سيماهم الحلق، آيتهم الحلق، سيماهم التحلّق، محلوق، المحلقون، محلوق الرأس، ‏مُحَلَّقَةٌ رُؤُوسُهُمْ، محلقي رؤوسهم، حلقان الرؤوس، يحلقون رؤوسهم، محلقون رؤوسهم. وقد فسر هذا الحلق بأنه حلق شعر الرأس (انظر موضوع: هل الخارجي محلوق شعر الرأس).

ولكن هذا الحَلْق الذي هو سمة وعلامة الخوارج، قد لا يكون له علاقة بحلق شعر الرأس، كما فهم أكثر العلماء[1]. هذا (الحَلْق) قد يكون مجرد تعبير آخر لعلامة وسمة الخوارج التي تحدثت عنها الأحاديث والأخبار كثيراً (وهي تكاد تكون أوضح سمة وعلامة مرتبطة بهم)، وهي ذلك الأثر الجسدي (سواد، تقشّر، تشقق، تقرّح، بروز، انتفاخ، تورّم، تغلّظ، تآكل، تقحّل، ...) على جبهة الخارجي أو على يديه أو رجليه أو على جسده عموماً الذي سبّبه كثرة سجوده (كثرة صلاته وعبادته). وهذه السمة أو العلامة أو الأثر الجسدي على وجه الخارجي وأطرافه (على بعض جسده الذي يلاقي الأرض ويقع عليها ويحتك بها أثناء الصلاة والسجود)، عُبّر عنها في الروايات بعبارات وأقوال وصور متنوعة مثل: أثر سجود على الجبهة، وجوه معلّمة، تقرّح أو تقحل أو تآكل على الجبهة أو الأطراف، سجّادة على الوجه، جبهة سوداء، تخدج أو انخداج في اليد (نقص نتج عن التآكل)، تشبيه ذلك التغلظ أو الانتفاخ أو التورم بالثدي (أو تصغيره الثُّديّ أوالثُّديّة) أو بالحلمة أو بطبي وحلمة شاة، تشبيه ذلك التآكل أو التورم والانتفاخ والتغلظ والبروز كأنه ثفنات البعير أو ركب المعزى، تشبيه ذلك السواد كأنه سفعة شيطان، تسمية تلك العلامة بالشامة.

كذلك ربما أراد الرواة بالتعبير الشهير: (حلق، تحالق، تحلق، تحليق، محلوق، ..)، نفس تلك العلامة الجسدية التي وصفوها بالأوصاف السابقة. فلعلهم قصدوا أن تلك (العلامة أو السمة على الجبهة أو الأطراف) تشبه الدائرة (الحلقة)، أو ربما قصدوا بالحلق معنى التقشر [تَحلِق أَي تَقْشِرُ تَقْشُرُ/اللسان] للجبهة (أو لعضو السجود، لكثرة احتكاكه بالأرض). فلعل كل تلك التعابير المتنوعة السابقة لوصف الآثار الجسدية (بسبب كثرة الصلاة والسجود)، عبّر الرواة عنها أيضاً بلفظ آخر هو (الحَلْق) و(التحليق) وما شابه من ألفاظ (من جذر حلق)، وقصدوا به معنى دائرة (حلقة) أو ما يشبهها (شُبّه ذلك الأثر الجسدي على الجبهة بما يقارب شكل الدائرة أو الحلقة) أو ربما قصدوا معنى التقشر (التآكل).

فالمعنى الأصلي للفظ الحلق والتحليق والتحالق وما شابه، ربما كان يريد معنى (الحلقة) أو العلامة المدوّرة أو شبه الدائرية، أو معنى (التقشر)[2] أو (ما يشبه القطع)[3] على الجبهة. وهذه الحلقة (العلامة الدائرية أو الأثر المدوّر) واقعاً ليست موجودة (في وجوه وأطراف أكثر الخوارج)، وإنما هي كناية فقط (على سبيل المبالغة والتوضيح الحسّي العيني) عن صفة واضحة في الخوارج أراد الرواة إبرازها وهي كثرة سجود الخوارج وصلاتهم (شدة عبادتهم). فالروايات في الأصل والحقيقة تريد أن تقول أن الخارجي علامته وآيته أنه كثير الصلاة والسجود والتدين. ولكن فضّل الرواة التعبير عن هذا المعنى الواقعي بطريقة أخرى غير مباشرة أو بطريقة بسيطة حسيّة مرئية (ربما لكي يفهم العامة ذلك الأمر بسهولة)، فجعل الرواة دليل هذا الحال من الخارجي (وهو كثرة الصلاة) ومؤشره الحسّي الذي تراه العين، هو تلك العلامة والسيما (ما يشبه الحلقة الدائرية أو التقشر) على جبهته ووجهه أو على يديه ورجليه (مواضع سجوده)، أو كما قيل: (له سَجّادة محلوق الرأس)[4]. فتلك السجّادة على وجهه لعله عبر عنها (بالإضافة إلى التعابير الأخرى التي ذكرناها)[5]  أنها أيضاً مثل (حلقة) أي أثر (دائري) أو أنه (حلق) أي تقشّر في الجلد.

فربما لم يقصد أوائل الذين كتبوا روايات الخوارج من عبارات (حلق، تحليق، تحالق، محلوق، ..) المعنى الذي فهمه تلامذتهم من بعدهم (معنى حلق شعر الرأس)، ولكن ربما قصد الكتبة الأولون معنى مثل: الحلقة (سيما أو علامة مدوّرة) على الجبهة أو الحلق (تقشر الجبهة). فلعل الكاتب الأقدم قصد بالتحليق معنى (الدائرة والتدوير والدوران والاستدارة، أو التآكل والتقشر أو ما يشبه ذلك) أي قصد معنى الحلقة المعروفة والتقشر أو معنى العلامة والأثر الجسدي عموماً. فلعل التحليق في أصله كان بمعنى الحلقة (السمة المستديرة أو الأثر شبه المدور أو تآكل الجبهة) أو العلامة (السمة عموماً) على جباههم كناية عن وصفهم بشدة العبادة. فتلك العلامة على وجه الخارجي، تبدو كأنها نقطة كبيرة سوداء مدوّرة (زبيبة)[6] أو (ركبة)[7] تشبه الدائرة (الحلقة) أو أنه محلوق الجبهة (قشرت الأرض جبهته أي حلقتها).

 

يمكن أن يرتبط جذر حلق في اللغة بمعنى العلامة الجسدية

ومعنى الحلقة (المحلّق) في اللغة قد يرتبط بمعنى السمة (الوسم والعلامة): [المُحَلَّق .. ناقةً سمَتُها على شكل الحَلْقة /المُحَلَّقُ من الإِبل: المَوْسوم بحلْقة /إِبل مُحلَّقة وسْمُها الحَلَق/ وذو حَلَقٍ: يعني: إِبلاً مِيسَمُها الحَلَق/ إِبلٌ محَلَّقة إِذا كان سِمَتُها الحَلَق/ يطلب إبلاً محلقة في وسمها/ الإبل .. معلّمة بحلقة/ والحلقة: سمة في الإبل مدورة/ الحلق: سمة من سمات الإبل][8] 

بل جاء باللغة ارتباط معنى الحلقة بأثر دائري (عضّة) على الوجه [المُحلِّق اسم رجل سمي بذلك لأَن فرسه عضَّته في وجهه فتركَتْ به أَثراً على شكل الحَلقة/ المُحلّق: .. أصابَهُ سَهْمٌ فَكُوِيَ بِحلْقَة/ المحلق لأن بعيراً عضه في وجهه، فصار فيه كالحلقة/ كوى نفسه بكيةٍ شبه الحلقة][9]. كما قد يكون الحلق على وجه الخارجي من معنى (التقشر والتآكل)[10] الذي حدث لجبهته (من كثرة السجود والصلاة).

ربما هذا هو معنى (التحليق) للخوارج، أي أنه على جبهة الخارجي علامة وحلقة وسمة ووشم، كناية عن مبلغ عبادته وتدينه وكثرة صلاته وسجوده (بوجهه أثر السجود ... صاحب صلاة وعبادة)[11] الذي سبب تلك الحلقة (ما يشبه الدائرة) أو الحلق (التقشر) والعلامة والسمة والأثر على وجهه وجبهته ويديه ورجليه.

فالكاتب الأقدم ربما قصد بالتحليق معنى الدائرة والتدوير [كما يُقال بالفقه تحليق الأصابع بالصلاة أي جعل الأصابع كالحلقة والدائرة، وكما يُقال التحليق في المساجد (حلقات علم وذكر)] [12] أو ربما قصد الحلق (تقشر الجبهة). وسوء الفهم هذا الذي يؤدي لتصحيف المعنى، قد أشار لمثله السخاوي [فهم منه حلق الرؤوس، وإنما هو تحليق الناس حلقاً][13].

وسبب وصف الخوارج بالتحليق هو إرادة وصفهم بمعنى كثرة صلاتهم بالليل والنهار وأنهم لا يفترون من السجود والتعبد. هذا هو قصد الرواة الأساسي الواقعي، من سمة وآية الخارجي (تحليق أو غيره من ألفاظ السمة والآية والعلامة). فكأن الخوارج من كثرة صلاتهم (سجودهم) قد تأثرت جباههم فتقشر (حَلِقَ) منها موضع ملامستها الأرض، أو انطبع عليها أثر وزبيبة ونقطة كبيرة أو بقعة (تقشراً وتشققاً، أو انتفاخاً وتغلظاً دائرياً)، دلّت على كثرة صلاتهم وشدة تعبدهم وتدينهم (كما تصفهم الروايات).

هذا طبعاً احتمال رأيته، وقد يكون خطأ. فلا ينبغي أن نقنع باحتمال حلق الشعر فقط، بل أن نبحث في كل الاحتمالات الممكنة. وهناك احتمالات أخرى سأضعها في المستقبل إن شاء الله.


[2] المحكم والمحيط الأعظم : وحَلَقَ الشَّيْء يَحْلِقُه حَلْقا: قشره. ... يَحلِقُهم أَي يقشرهم.... تَحْلقُ أَي تقشر. ...وحَلاقِ: السّنة المجدبة، كَأَنَّهَا تقشر النَّبَات.

[3] تهذيب اللغة : الحَالِقَةُ: قطيعةُ الرَّحِم ... والقومُ يحلِقُ بَعضهم بَعْضًا إِذا قَتَلَ بَعضهم بَعْضًا/[القاموس المحيط : والحالِقَةُ: قَطيعةُ الرحِمِ/ سيفٌ حالوقَةٌ: ماضٍ]

[4] قوت القلوب - أبو طالب المكي (المتوفى: 386هـ):  كما فعل بالقسم الذي قسمه بين المؤمنين فأعطاهم، إلا رجلاً من الغزاة له سجادة محلوق الرأس فإنه لم يعطه وقال: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله تعالى، والله ما عدل فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن لم أعدل فمن يعدل؟ وكان ذلك أول قرن نبغ من الخوارج

[5] أثر سجود على الجبهة، وجوه معلّمة، تقرّح أو تقحل أو تآكل على الجبهة أو الأطراف، سجّادة على الوجه، جبهة سوداء، تخدج أو انخداج في اليد، تشبيه ذلك التغلظ أو الانتفاخ أو التورم بالثدي أو بالحلمة أو بطبي شاة، تشبيه ذلك التآكل أو التورم والانتفاخ والتغلظ والبروز كأنه ثفن إبل أو ركبة عنز، تشبيه ذلك السواد كأنه سفعة شيطان، تسمية تلك العلامة بالشامة.

[6] تخريج أحاديث إحياء علوم الدين: (وبين عينيه أثر السجود) وهو المسمى على ألسنة الناس زبيبة الصلاح

[7] تاج العروس/ المحيط في اللغة-ابن عباد: وأثَرُ السُّجُودِ يُقال له: الرُّكْبَةُ.

[8] اللسان: وأَما قول النابغة الجَعْدِي:وذكَرْتَ من لبَنِ المُحَلَّق شَرْبَةً * ،.. فقد زعم بعض أَهل اللغة أَنه عنى ناقةً سمَتُها على شكل الحَلْقة .. والمُحَلَّقُ من الإِبل: المَوْسوم بحلْقة في فخذه أَو في أَصل أُذنه، ويقال للإِبل المُحَلَّقة: حلَقٌ..الجوهري: إِبل مُحلَّقة وسْمُها الحَلَقُ. اللسان: وذو حَلَقٍ: يعني: إِبلاً مِيسَمُها الحَلَقُ يقال: إِبلٌ محَلَّقة إِذا كان سِمَتُها الحَلَق/ المفردات في غريب القرآن: وإبل مُحَلَّقَة: سمتها حلق/ المعاني الكبير في أبيات المعاني: يطلب إبلاً محلقة في وسمها/ مصنف عبد الرزاق: ورأيت تلك الإبل التي قضى بها عثمان معلّمة بحلقة فيها خط./ تاج العروس : والحلقة: سمة في الإبل مدورة، شبه حلقة الباب. والحلق محركة: الإبل الموسومة بها، كالمحلقة/ المحيط في اللغة: والحلق: سمة من سمات الإبل، إبل محلقة.

[9] اللسان: قال ابن سيده: المُحلِّق اسم رجل سمي بذلك لأَن فرسه عضَّته في وجهه فتركَتْ به أَثراً على شكل الحَلقة/ القاموس: المُحلّق: كمُعَظَّمٍ: لَقَبُ عبدِ العُزَّى بنِ حَنْتَمٍ، لأَنَّ حِصاناً عَضَّهُ في خَدِّهِ كالحَلْقَةِ، أو أصابَهُ سَهْمٌ فَكُوِيَ بِحلْقَةٍ/ خزانة الأدب: وسمي محلقاً لأن فرسه عضه، فصار موضع عضه كالحلقة، فقيل له المحلق. وقال ابن السيد في شرح أبيات الجمل: وسمي المحلق لأن بعيراً عضه في وجهه، فصار فيه كالحلقة. وقيل: بل كوى نفسه بكيةٍ شبه الحلقة./ تاج العروس : والمُحَلَّقُ: لقبُ عَبْدِ العُزَّى ابنِ حنْتَمِ بنِ شدّادِ بن رَبِيعَةَ بنِ عَبْدِ الله بنِ عُبَيْدِ بنِ كِلابٍ العامري وضَبَله صاحِبُ اللِّسانِ كمحَدث لأَنَّ حِصاناً لَهُ عَضَّه فِي خَدِّه وكانَت العَضَّةُ كالحَلْقَة هَذَا قولُ أَبي عُبيدَة أَو أصابَه سهم غَرب فكوى بحلْقة مِقْراضِ، فبَقِي أَثَرها فِي وَجْهِه

[10] الصحاح: وحَلِقَ الفرسُ والحمارُ بالكسر يَحْلَقُ حَلَقاً، إذا سَفِدَ فأصابه فسادٌ في قضيبه من تَقَشُّرٍ وَاحْمِرارٍ، فيُداوى بالخِصاء / مقاييس اللغة : ومن المحمول عليه حلق قضيب الحمار، إذا احمر وتقشر. و قيل إنما قيل حلق لتقشره لا لاحمراره / تاج العروس: وحَلَقَ الشَّيء يَحْلِقه حَلْقاً: قَشَرَه./ العين :  والحالق: المشْئُوم يَحلِقُ أهله ويقشُرهم./ المحكم والمحيط الأعظم : وحلق الشيء يحلقه حلقا: قشره. والحالق: المشئوم على قومه، كأن يحلقهم أي يقشرهم. وحلاق: المنية، معدولة عن الحالقة لأنها تحلق أي تقشر. ..وحلاق: السنة المجدبة، كأنها تقشر النبات/ المحيط في اللغة: يحلق قومه: يقشرهم.

[11] نهاية الارب: فقاتله ابن عوف وقتله مبارزة، ...ورأى ابن عوف بوجه حوثرة أثر السجود، وكان صاحب عبادة/ أنساب الأشراف للبلاذري : وبارز حوثرة ابن أحمر فطعنه ابن أحمر فقتله ... ونظر ابن أحمر إلى حوثرة فرأى بوجهه أثر السجود قد غلب على وجهه، وكان صاحب صلاة وعبادة، فندم على قتله وقال:...قتلت مصليا محياء ليل ... قتلت أخا تقى/ الكامل في اللغة والأدب : فحمل عليه رجل من طيئ فقتله، فرأى أثر السجود قد لوح جبهته، فندم على قتله

[12] معجم لغة الفقهاء: التحليق: جعل الشئ كالحلقة، ومنه تحليق الابهام على السبابة في التشهد

[13] فتح المغيث شرح ألفية الحديث- السخاوي: ثم إن جل التصحيف كما أشرت إليه في اللفظ. وقد (صحف المعنى) فقد بعض الشيوخ الخطابي في الحديث فيما حكاه عنه، وأنه لما روى الحديث النهي عن التحليق يوم الجمعة قبل الصلاة قال: منذ أربعين سنة ما حلقت رأسي قبل الصلاة فهم منه حلق الرؤوس، وإنما هو تحليق الناس حلقاً،


حامد العولقي