نشوء البيان

دراسات قرآنية لغوية تاريخية آثارية

Untitled 1

جاء بمعنى فعل وأحدث 

علينا أن نتذكر إلى أن فعل (جاء) لا يستخدم دائماً بالمعنى المشهور الشائع، مثل : جاء فلان من المكان.

ولكن بعض الأحيان نقول عبارات مثل: جاء فلان بالصدق، جاء فلان بالإخلاص، جاء فلان بالأدب، جاء بحركة لا تدل على الاحترام، جاء بصوت مزعج1،   ...

 

جاء فلان بالشيء

انظر إلى فعل (جاء) في مثل هذه الآيات (جاء بالحسنة/ جاءوا بالإفك) وغيرها2، الذي مثل جملة (جاء فلان بالشيء).

  

جاء فلان شيئاً

انظر إلى فعل جاء في مثل هذه الآيات الذي مثل جملة (جاء فلان شيئاً):  

{جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف: 71]/ {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف: 74]/ { يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} [مريم: 27]/ {جِئْتُمْ شَيْئًا} [مريم: 89]/ {جَاءُوا ظُلْمًا} [الفرقان: 4]

  

فالفعل جاء بالآيات السابقة لا يفيد معنى (جاء فلان من المكان) كما ذهب إليه المفسرون في فهم الآية ({جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43]). 

 

وذكر أهل اللغة والمفسرون3 أن أحد معاني (جاء) هو معنى: فَعَلَ  وأحْدَثَ. [الكليات : جئت شيئا حسنا: إذا فعلته وعلى هذا المعنى لفعل (جاء)، أي معنى (فعل وأحدث)، يمكن أن يكون معنى (جاء أحد منكم) مثل :

(أحدث، فعل، أخرج) فلان = جاء فلان (بالفضلات من داخله) = (أحدثها، أخرجها)...

وليس جاء الإنسان من مكان.

فيمكن أن يكون أحد معاني الآية (جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ) هو مثل :

جاء فلان (بما في بطنه) من الغائط/ جاء فلان (بشيء) من الغائط / جاء فلان بعض الغائط (حيث: مِن= بعض)/ جاء فلان بعض فضلاته

ويمكن استعمال فعل (جاء) بمعنى ما خرج من الإنسان كالدم: [اسْتَنَّ دَمُ الطعنة إذا جاءت دُفْعةٌ منها .. وَطَعَنه طَعْنةً فجاء منها سَنَنٌ يَدْفَعُ كلَّ شيءٍ إذا خرج الدمُ بحَمْوَتِهللسان، تاج العروس/ تاج العروس: الجَيْئَةُ .. : القَيْحُ والدَّمُ/ المعجم الوسيط: الجيئة ما يجيء من الجرح من دم أو قيح]. فلعل (جاء فلان من الغائط) غير بعيد منه.

 

فعل – فعل بها

إضافة على ما سبق، فإن كثيراً من الأفعال التي يُراد بها ما يخرج من الإنسان، تُقال لغوياً بطريقتين4: إما بطريقة (فعل) وإما بطريقة (فعل بها).

وإذن قد يكون فعل (جاء) بالآية بنفس معنى (جاء به)5، أي جاء بما في بطنه. فلعل فعل (جاء) بالآية تقديره من معنى (جاء) فلان (بالشيء). أي كأن:

(جاء) فلان من الفضلات =  فلان (جاء) من الفضلات= فلان (جاء بِ ما في بطنه) من الفضلات.

ونلاحظ وجود عبارات بالمعاجم فيها فعل (جاء) مرتبط بما يخرج من بطن الإنسان، مثل:

معجم ديوان الأدب : ويقال: هو يسك سكا ، إذا رق ما يجيء منه من الغائط.
تهذيب اللغة : قَالَ الْأَصْمَعِي: هُوَ يَسك سكّاً ويَسُجُّ سجّاً: إِذا رَق مَا يَجِيء مِن سَلْحِه./ ويقالُ: هُوَ يسُجُّ، ويسُكُّ سكاً إِذا رقَّ مَا يجيءُ مِنْهُ.
لسان العرب : ويقال: هو يسج سجا ويسك سكا إذا رمى ما يجيء منه. ... وسج يسج إذا رق ما يجيء منه من الغائط./ وكثعت الغنم كثوعا: استرخت بطونها فسلحت ورق ما يجيء منها
تاج العروس : هُوَ يَسُجّ سَجًّا ويَسُكّ سَكًّا: إِذا رَمى مَا يجيءُ مِنْهُ

كما نلاحظ أن عبارة (يجيء منه من الغائط) غير بعيدة عن عبارة الآية [جاء أحد منكم من الغائط].


 (1) تعليق من أمالي ابن دريد : حبق رجل في مجلسه فجاء بصوت منكر/ تفسير ابن أبي حاتم : واتخذ إبليس شبابة مثل الذي يزمر فيه الرعاء، فجاء بصوت لم يسمع الناس مثله

(2) {جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة: 71]/ {إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ} [الأعراف: 106]/ {جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} [الأنعام: 160]/ {جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} [الأنعام: 160]/ {جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69]/ {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} [يوسف: 72]/ {جَاءَ بِالْهُدَى} [القصص: 37]/ {جَاءَ بِالْحَقِّ} [الصافات: 37]/ {جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات: 84]/ {جَاءَ بِالصِّدْقِ} [الزمر: 33]/ {جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ} [الزخرف: 63]/ {وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 33]/ {جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة: 71]/ {جِئْتَ بِآيَةٍ} [الأعراف: 106]/ { مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ} [يونس: 81]/ {وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116]/ { وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف: 18]/ {جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ} [آل عمران: 184]/ {جَاءُوا بِالْإِفْكِ} [النور: 11] 

(3) تاج العروس: جَاء كذا : فَعَله ومنه " لَقَدْ جِئتِ شيئاً فَرِيًّا " ويرد في كلامهم لازماً ومُتعدِّياً // تفسير الطبري: وقوله { لقد جئت شيئا نكرا } يقول : لقد جئت بشيء منكر وفعلت فعلأ غيرمعروف/ وقوله( قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ) ...قالوا لها: يا مريم لقد جئت بأمر عجيب، وأحدثت حدثا عظيما //تفسير القرطبي: فقالوا منكرين: (لقد جئت شيئا فريا) أي جئت بأمر عظيم //تفسير الرازي: وقوله : { لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً } [ مريم : 27 ] أي فعلت . قال صاحب «الكشاف» : أتى وجاء ، يستعملان بمعنى فعل / قوله تعالى : { فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً } ... أي جاءوا بالظلم والزور //تنوير المقباس من تفسير ابن عباس : { لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً } لقد فعلت شيئاً منكراً شديداً على القوم .. { لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً } فعلت فعلاً منكراً عظيماً/ /[تفسير البغوي: "لقد جئت شيئا فريا"( مريم -27 ) أي: فعلت،/ قال الله تعالى: { فَقَدْ جَاءُوا } يعني قائلي هذه المقالة، { ظُلْمًا وَزُورًا } أي: بظلم وزور. //تفسير البحر المحيط لابن حيّان: { فقد جاؤوا ظُلماً وزُوراً } قال الزجاج : المعنى : فقد جاؤوا بظلم وزور //تفسير أبي السعود: قوله تعالى : { فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً } ... فإن ما جاءوه أي فعلوه من الظلم والزور/ أضواء البيان للشنقيطي : واعلم أن العرب تستعمل جاء وأتى بمعنى : فعل . فقوله : { فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً } أي فعلوه وقيل بتقدير الباء : أي جاءوا بظلم  

(4) وضعت المقارنة بين الطريقتين بهيئة [فعل>><< فعل بها]: [الصحاح في اللغة - الجوهري: يقال: حَبَجَ الرجلُ بالفتح، يَحْبِجُ حَبْجاً، أي حَبَقَ.>><< الجيم - أبو عمرو الشيباني: والحبج: الضرط؛ يقال: حبج بها]، [العين : خَبَجَ الحمار: إذا ضَرَط.>><< اللسان: خَبَجَ بها إِذا ضرط]، [جمهرة اللغة - ابن دريد: حَبَقَ يَحبق حَبْقَاً وحُباقاً. والحَبْقة: الضُّرَيْطة. وأكثر ما يُستعمل ذلك في الإبل والغنم، وربما استُعمل في الناس أيضاً فقيل: حَبَقَ الغلامُ يَحبِق حَبْقاً وحُباقاً./ تهذيب اللغة – الأزهري: الليث: الحبق: ضراط المعز. تقول: حبقت تحبق حبقا.>><< تاج العروس: وحَبَكَ بِها وحَبَجَ بها مثل حَبَقَ بها/ الجيم - أبو عمرو الشيباني: حبق بها/ تهذيب اللغة – الأزهري: وقال أبو عبيد: قال الأصمعي: يقال: نفخ بها، وحبق بها، إذا ضرط]، [ المخصص - ابن سيده: ابن دريد، خَضَف الحمارُ وغيرُه يَخْضَف خُضَافاً - ضَرَط / المحيط في اللغة - الصاحب بن عباد: خضف البعير يخضف خضفاً وضيفاً ضرط./ جمهرة اللغة - ابن دريد: خَضَفَ العَيْرُ وغيرُه يخضِف خَضْفاً وخُضافاً، إذا ضرط./ كتاب الأفعال - ابن القطاع: خضَف الإنسانُ والبعيرُ خضْفاً ضَرط >><< المخصص - ابن سيده:  أبو عبيد، .. خَضَف بها - كُلُّه ضَرَط]، [العين : حَصَمَ الفرس وخَبَجَ الحمار: إذا ضَرَط.>><< المخصص - ابن سيده:   أبو عبيد، حَصَم بها كذلك]، [اللسان: ندَرَ الرجلُ خَضَفَ وفي حديث عمر رضي الله عنه أَن رجلاً ندَرَ في مجلسِه فأَمَرَ القومَ كلهم بالتطهر لئلا يَخْجَل النادِرُ حكاها الهَرَوِيّ في الغَرِيبَين معناه أَنه ضَرطَ كأَنها ندَرَت منه من غير اختيار >><< اللسان: ويقال للرجل إِذا خَضَفَ ندَرَ بها]، [الصحاح في اللغة - الجوهري : عَفَطَتِ العنز تَعْفِطُ عَفْطاً: حَبَقَتْ.>><< اللسان: ويقال عَفَقَ بها وعَفَطَ بها إِذا ضَرطَ.]، [جمهرة اللغة - ابن دريد: ذَرَقَ الطائرُ يذرِق ذَرْقاً، وربما استُعير للإنسان./ المغرب: ذَرَقَ الطَّائِرُ يَذْرُقُ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ ذَرْقًا سَلَحَ وَالذَّرْقُ السُّلَاحُ تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ / المصباح المنير في غريب الشرح الكبير: ذَرَقَ الطَّائِرُ ذَرْقًا مِنْ بَابَيْ ضَرَبَ وَقَتَلَ وَهُوَ مِنْهُ كَالتَّغَوُّطِ مِنْ الْإِنْسَانِ وَأَذْرَقَ بِالْأَلِفِ لُغَةٌ >><< العين: وزرق به وذرق به إذا وضعه بِخِراءة مستوياً/ العين: ذرق بسلحه ذرقا، المعجم الوسيط: و يقال ذرق بسلحه]، [تهذيب اللغة – الأزهري: زََق الطائر يَزرُق وَيَزْرِقُ إذا حذف بزرقِهِ حذفاً.>><< اللسان: زَقَّ بسَلْحه يَزُقُّ زَقّاً وزَقْزَقَ حذَف]، [المحكم والمحيط الأعظم - ابن سيده: سَجَّ الطائر سَجاًّ: حذف بذرقه. وسَجَّ النعام: ألقى ما في بطنه./ المعجم الوسيط: و يقال سج فلان و سج الطائر ألقى ما في بطنه>><< المحكم والمحيط الأعظم - ابن سيده: سَجَّ بسلحه سَجاًّ: القاه رقيقا].

(5) مفردات القرآن للراغب الأصفهاني: جاء بكذا : استحضره./ بصائر ذوي التمييز : وجاءَ بكذا: استحضره/ التحرير والتنوير : (ما جئتم به السحر) ... ومعنى جئتم به أظهرتموه لنا، فالمجيء قد استعمل مجازا في الإظهار، لأن الذي يجيء بالشيء يظهره في المكان الذي جاءه، فالملازمة عرفية. وليس المراد أنهم جاؤوا من بقاع أخرى مصاحبين للسحر

 

 

حامد العولقي